انتهيت للتو من مشاهدة مسلسل التغريبة الفلسطينية، وقد تنتهي حلقاته ولكن أثره لا ينتهي عند الحلقة الواحدة والثلاثين. إنه يتركُ في القلب شلالاتٍ من القهر والغضب والأسى. وقد بكيتُ خلاله كما لم أبكِ قطّ في حياتي، وما زال الدمعُ يندلق كما يندلقُ الماءُ من جرةٍ مثقوبة، لا الدمعُ انتهى، ولا الجرحُ اندمل. إن قراءة ما كانَ لا يضاهي على الإطلاق تجسيدَه في عملٍ مرئيّ، وإن المسلسلَ يكشفُ جراحنا كلّها، واضحةً لا تخطئها عينٌ، ولا يضاهيها ألم.
لقد احتضنني البيتُ الصغيرُ في منتصفِ القريةِ، كما لم يحتضني بيت. صرتُ، وأنا البدويُّ أصلًا، فلاحًا من أفرادِ العائلة الطيبين، وقد فرحتُ لرؤيا "علي" وهو يمتطي ظهرَ الحمارِ ويذهبُ إلى مستقبله الواعدِ في المدينةِ، وبكيتُه عندما قرصَه الجوعُ، وهو القرويُّ البائسُ في عُسر المدينةِ، فيمسح بالماءِ العفنَ عن الرغيفِ ويجفّفه ثم يتناوله، على يومين. وغضبتُ لغضبةِ "أحمد"، وشاهدتني أحملُ الفأسَ وأركضُ خلفه لإنقاذِ أرض المَشاع، ثم تبعته، حين صار "أبو صالح"، يحملُ بندقيته قائداً للثورة، ويُشيرُ على الرجالِ، ويردّ بصدرهِ الرصاصَ عن القريةِ وأهلها. وألِمت لألمهِ عندما انطفأت الثورةُ، ورأيتني أجلسُ بجانبهِ، فوق الجبلِ، نحاول استيعابَ الأمرِ، ونبكي خيبتنا معًا.
كما رقَّ قلبي لمرأى "جميلة" وهي تشدو في البيدرِ، وشعرتُ الحبَّ يتشكّل في قلبي كما تكثف في قلبِ "حسن". سهمتُ لسُهمهِ، وسهرتُ لسَهرهِ، وقفزتُ فرحًا وهو يقولُ "أحبكِ" كما لم يقلها أحدٌ من قبل. واخترقت قلبي الرصاصةُ نفسُها التي استقرّت في صدرِ "جميلة"، وبكيتُها، وبكيتُ حسن، وبكيت حبّهما الذي لم يكتمل، كأن على الفلسطينيّ ألا يهنأ، وألا يهوى، وألا يشهد أيّ نهاية سعيدة لحكايته.
ورأيتُ نكبتنا أمامي، رأيتُ جرحنا الذي ما زال إلى يومنا هذا ينزُّ، رأيتُ الرعبَ يقفزُ من عيونِ الأهلِ، ورجّتني الصرخاتُ التي تخرجُ مكتومةً ومشوشة، ورأيتهم يهربونَ في جزعٍ، فيما تنهالُ عليهم السماءُ مطبقةً، ويتساقطون جثثًا من هلعٍ ودماء. رأيتهم يجرّون خيباتهم وجراحهم ويسيرون إلى غير هدىً، في طريقٍ طويلٍ وشائكٍ، ورأيتهم يكبرونَ فجأةً، عشرينَ عاماً على الأقل، تغبرتُ الوجوهُ وتشققت من أثر الملح، وسالَ الدمُ من الأقدامِ، لكن وجعاً واحداً كان يغلِبُ، كان ينهشُ أجسادهم أكثرَ من غيرهِ، وجعُ الرحيل.
رأيتُ ولادةَ المخيم كما لم أتخيلها أبدا، رأيت الحشودَ تتكوم فوق بعضها البعض، في خيامٍ غير صالحةٍ للمبيتِ، فيما طوابيرُ الطعامِ والماءِ تمتدُّ إلى حيث لا يدركها البصر. ورأيتهم ساهمينَ، غير مصدقينَ، غير مدركينَ، بعدُ، حجم نكبتهم/ نكبتنا. ورأيتُ الخيامَ تصيرُ حجارةً، والحجارةُ تصيرُ بيوتًا، والبيوتُ تصيرُ مخيمًا للاجئين. أصبحوا يسمونَ، فجأةً، لاجئين.
وعرفتُ، وأنا ابن المخيمِ، كيف صار هذا المسمى الجديدُ لعنةً أزليةً، تطارد منذ البدءِ حامليه، وتحيلُ حياتهم شقاءا وعسرا. وبكيتُ "سعيد" وهو ينفثُ أوجاعهُ مواويلَ من شوقٍ وهيام. وبكيتهُ، وهو يلفظُ أنفاسه الجافة من العطش الشديدِ، بعد أيامٍ وليالٍ طوالٍ من التيه في الصحراء في طريق الهروب إلى الكويت، وهو يوصي "مسعود" بحبيبته الناصريةِ، ويهديها بيتهما الضائع.
وشاهدتُ آمالنا تتكسرُ في حزيران، حين كان الأهلُ في المخيماتِ يوضبون زوّاداتهم ويتأهبونَ للعودة، حتى جاء خبر الهزيمةِ كالقذيفة، أحرقت ما اخضرَّ في القلوبِ، وتركتهم للأسى والخذلان والانكسار والحنين. لقد كانت تلك الهزيمة القشةَ التي كسرت ظهرَ الحلم، ذلك الحلم الذي كان يسندُ ظهورهم ويعزز آمالهم بانتهاء الكابوس الذي يعيشونه، ويبقيهم على أهبةِ الاستعدادِ للعودةِ، في أيّ لحظةٍ، إلى البلاد. ولكنهم هزموا كما هُزم العرب. غلبتهم آلة البطش الصهيونيةِ في المعركةِ، وفي النفوسِ، وضاعت البلاد...
وهكذا، إلى يومنا هذا، ظل جرحنا نازفاً ونكبتنا مستمرة.
تعليقات
إرسال تعليق